فصل: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِ الدَّعَاوِي الْمُوجِبَةِ لَهُ وَشُرُوطِهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَنْ يَصِحُّ فِيهِ الظِّهَارُ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى لُزُومِ الظِّهَارِ مِنَ الزَّوْجَةِ الَّتِي فِي الْعِصْمَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ مِنَ الْأَمَةِ، وَمِنَ الَّتِي فِي غَيْرِ الْعِصْمَةِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي ظِهَارِ الْمَرْأَةِ مِنَ الرَّجُلِ. فَأَمَّا الظِّهَارُ مِنَ الْأَمَةِ: فَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: الظِّهَارُ مِنْهَا لَازِمٌ كَالظِّهَارِ مِنَ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا ظِهَارَ مِنْ أَمَةٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ يَطَأُ أَمَتَهُ فَهُوَ مِنْهَا مُظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فَهِيَ يَمِينٌ، وَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ مُظَاهِرٌ لَكِنْ عَلَيْهِ نِصْفُ كَفَّارَةٍ. فَدَلِيلُ مَنْ أَوْقَعَ ظِهَارَ الْأَمَةِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَالْإِمَاءُ مِنَ النِّسَاءِ. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ ظِهَارًا أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ النِّسَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، هُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، فَكَذَلِكَ اسْمُ النِّسَاءِ فِي آيَةِ الظِّهَارِ. فَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ قِيَاسِ الشَّبَهِ لِلْعُمُومِ (أَعْنِي: تَشْبِيهَ الظِّهَارِ بِالْإِيلَاءِ، وَعُمُومُ لَفْظِ النِّسَاءِ، أَعْنِي: أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي دُخُولَ الْإِمَاءِ فِي الظِّهَارِ، وَتَشْبِيهُهُ بِالْإِيلَاءِ يَقْتَضِي خُرُوجَهُنَّ مِنَ الظِّهَارِ).
وَأَمَّا هَلْ مِنْ شَرْطِ الظِّهَارِ كَوْنُ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا فِي الْعِصْمَةِ أَمْ لَا؟
فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، وَأَنَّ مَنْ عَيَّنَ امْرَأَةً مَا بِعَيْنِهَا وَظَاهَرَ مِنْهَا بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَقَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. وَبِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الظِّهَارِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَلْزَمُ الظِّهَارُ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ الرَّجُلُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ، فَقَالُوا: إِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ ظِهَارٌ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِنْ قَيَّدَ لَزِمَهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً أَوْ سَمَّى قَرْيَةً أَوْ قَبِيلَةً، وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ. وَدَلِيلُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}؛ وَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى شَرْطِ الْمِلْكِ فَأَشْبَهَ إِذَا مَلَكَ، وَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ.
وَأَمَّا حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ فَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا طَلَاقَ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ، وَلَا بَيْعَ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ، وَلَا وَفَاءَ بِنَذْرٍ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالظِّهَارُ شَبِيهٌ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّعْمِيمِ وَالتَّعْيِينِ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ التَّعْمِيمَ فِي الظِّهَارِ مِنْ بَابِ الْحَرَجِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي: هَلْ تُظَاهِرُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ؟
فَعَنِ الْعُلَمَاءِ فِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَشْهَرُهَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهَا ظِهَارٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي أَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَالثَّالِثُ أَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ. وَمُعْتَمَدُ الْجُمْهُورِ تَشْبِيهُ الظِّهَارِ بِالطَّلَاقِ، وَمَنْ أَلْزَمَ الْمَرْأَةَ الظِّهَارَ فَتَشْبِيهًا لِلظِّهَارِ بِالْيَمِينِ، وَمَنْ فَرَّقَ فَلِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ أَقَلَّ اللَّازِمِ لَهَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُظَاهِرِ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَهُ مِنْ مُلَامَسَةٍ، وَوَطْءٍ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ، وَنَظَرِ اللَّذَّةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجِمَاعُ وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ مِمَّا دُونَ الْجِمَاعِ مِنَ الْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَاللَّمْسِ، وَالتَّقْبِيلِ، وَالنَّظَرِ لِلَذَّةٍ، مَا عَدَا وَجْهَهَا، وَكَفَّيْهَا، وَيَدَيْهَا مِنْ سَائِرِ بَدَنِهَا، وَمَحَاسِنِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ النَّظَرَ لِلْفَرْجِ فَقَطْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا يُحَرِّمُ الظِّهَارُ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ فَقَطْ، الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ لَا مَا عَدَا ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجَمَاعَةٌ. وَدَلِيلُ مَالِكٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، وَظَاهِرُ لَفْظِ التَّمَاسِّ يَقْتَضِي الْمُبَاشَرَةَ فِيمَا فَوْقَهَا، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا لَفْظٌ حَرُمَتْ بِهِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ لَفْظَ الطَّلَاقِ. وَدَلِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَلَّتْ عَلَى الْجِمَاعِ لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَا فَوْقَ الْجِمَاعِ، لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَا فَوْقَ الْجِمَاعِ، وَإِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى الْجِمَاعِ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْمَجَازِيَّةُ، لَكِنْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْجِمَاعِ، فَانْتَفَتِ الدَّلَالَةُ الْمَجَازِيَّةُ، إِذْ لَا يَدُلُّ لَفْظٌ وَاحِدٌ دَلَالَتَيْنِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا. قُلْتُ: الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَهُ عُمُومٌ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا (أَعْنِي: الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ)، وَإِنْ كَانَ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ لِلْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ الْقَوْلُ بِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الضَّعْفِ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ لِلشَّرْعِ فِيهِ تَصَرُّفًا لَجَازَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الظِّهَارَ مُشَبَّهٌ عِنْدَهُمْ بِالْإِيلَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ عِنْدَهُمْ بِالْفَرْجِ.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ هَلْ يَتَكَرَّرُ الظِّهَارُ بِتَكَرُّرِ النِّكَاحِ:

وَأَمَّا تَكَرُّرُ الظِّهَارِ بَعْدَ الطَّلَاقِ (أَعْنِي: إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ ثُمَّ رَاجَعَهَا هَلْ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهَا الظِّهَارُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْمَسِيسُ حَتَّى يُكَفِّرَ) فِيهِ خِلَافٌ. قَالَ مَالِكٌ: إِنْ طَلَّقَهَا دُونَ الثَّلَاثِ، ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ بَعْدَهَا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ رَاجَعَهَا فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَعَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الظِّهَارُ رَاجِعٌ عَلَيْهَا نَكَحَهَا بَعْدَ الثَّلَاثِ، أَوْ بَعْدَ وَاحِدَةٍ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ شَبِيهَةٌ بِمَنْ يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ يُطَلِّقُ، ثُمَّ يُرَاجِعُ، هَلْ تَبْقَى تِلْكَ الْيَمِينُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الطَّلَاقُ يَرْفَعُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَيَهْدِمُهَا، أَوْ لَا يَهْدِمُهَا؟
فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْبَائِنَ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ يَهْدِمُ، وَأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَا يَهْدِمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الطَّلَاقَ كُلَّهُ غَيْرُ هَادِمٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ كُلَّهُ هَادِمٌ.

.الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي دُخُولِ الْإِيلَاءِ عَلَيْهِ:

وَأَمَّا هَلْ يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الظِّهَارِ إِذَا كَانَ مُضَارًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُكَفِّرَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَفَّارَةِ؟
فَإِنَّ فِيهِ أَيْضًا اخْتِلَافًا: فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ: لَا يَتَدَاخَلُ الْحُكْمَانِ، لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ خِلَافُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُمْ مُضَارًّا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الظِّهَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُضَارًّا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الظِّهَارِ، وَتَبِينُ مِنْهُ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُضَارَّةِ. فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: إِنَّهُ يَدْخُلُ بِإِطْلَاقٍ، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِإِطْلَاقٍ، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الْمُضَارَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَ عَدَمِهَا. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، وَاعْتِبَارُ الظَّاهِرِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ الظَّاهِرَ قَالَ: لَا يَتَدَاخَلَانِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى قَالَ: يَتَدَاخَلَانِ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الضَّرَرَ.

.الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي أَحْكَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:

وَالنَّظَرُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا فِي عَدَدِ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَتَرْتِيبِهَا، وَشُرُوطِ نَوْعٍ مِنْهَا (أَعْنِي: الشُّرُوطَ الْمُصَحِّحَةَ)، وَمَتَى تَجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؟
وَمَتَى تَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ؟
فَأَمَّا أَنْوَاعُهَا كفارة الظهار: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ، أَوْ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَأَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ. فَالْإِعْتَاقُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالصِّيَامُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْإِطْعَامُ، هَذَا فِي الْحُرِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَبْدِ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ؟
بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الَّذِي يَبْدَأُ بِهِ الصِّيَامُ (أَعْنِي: إِذَا عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ)، فَأَجَازَ لِلْعَبْدِ الْعِتْقَ - إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ - أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَأَبَى ذَلِكَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ، فَأَجَازَهُ لَهُ مَالِكٌ إِنْ أَطْعَمَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ، أَوْ لَا يَمْلِكُ؟
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الشُّرُوطِ الْمُصَحِّحَةِ: فَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ إِذَا وَطِئَ فِي صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ، هَلْ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ أَمْ لَا؟
في كفارة الصيام فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَسْتَأْنِفُ الصِّيَامَ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ شَرَطَ فِي ذَلِكَ الْعَمْدَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ مَالِكٌ بَيْنَ الْعَمْدِ فِي ذَلِكَ، وَالنِّسْيَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْتَأْنِفُ عَلَى حَالٍ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ تَشْبِيهُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالشَّرْطُ الَّذِي وَرَدَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ (أَعْنِي: أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ)، فَمَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الشَّرْطَ قَالَ: يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَالَ: لَا يَسْتَأْنِفُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ تَرْفَعُ الْحِنْثَ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِاتِّفَاقٍ.
وَمِنْهَا: هَلْ مِنْ شَرْطِ الرَّقَبَةِ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً أَمْ لَا؟
في كفارة الظهار فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي الْإِجْزَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجْزِي فِي ذَلِكَ رَقَبَةُ الْكَافِرِ، وَلَا يَجْزِي عِنْدَهُمْ إِعْتَاقُ الْوَثَنِيَّةِ، وَالْمُرْتَدَّةِ. دَلِيلُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إِعْتَاقٌ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُسْلِمَةً، أَصْلُهُ الْإِعْتَاقُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَرُبَّمَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَيَّدَ الرَّقَبَةَ بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَأَطْلَقَهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَيَجِبُ صَرْفُ الْمُطْلَقِ إِلَى الْمُقَيَّدِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِيهِ خِلَافٌ، وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يُجِيزُونَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَسْبَابَ فِي الْقَضِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ.
وَأَمَّا حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ ظَاهِرُ الْعُمُومِ، وَلَا مُعَارَضَةَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَوَجَبَ عِنْدَهُ أَنْ يُحْمَلَ كُلٌّ عَلَى لَفْظِهِ.
وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ هَلْ مِنْ شَرْطِ الرَّقَبَةِ أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً مِنَ الْعُيُوبِ أَمْ لَا؟
في كفارة الظهار ثُمَّ إِنْ كَانَتْ سَلِيمَةً فَمِنْ أَيِّ الْعُيُوبِ تُشْتَرَطُ سَلَامَتُهَا؟
فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ لِلْعُيُوبِ تَأْثِيرًا فِي مَنْعِ إِجْزَاءِ الْعِتْقِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ تَشْبِيهُهَا بِالْأَضَاحِيِّ، وَالْهَدَايَا لِكَوْنِ الْقُرْبَةِ تَجْمَعُهَا. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي إِطْلَاقُ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ. فَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الظَّاهِرِ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ لِلْعُيُوبِ تَأْثِيرًا فِي مَنْعِ الْإِجْزَاءِ اخْتَلَفُوا فِي عَيْبٍ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْزَاءِ، أَوْ عَدَمِهِ. أَمَّا الْعَمَى، وَقَطْعُ الْيَدَيْنِ، أَوِ الرِّجْلَيْنِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي أَنَّهُ مَانِعٌ لِلْإِجْزَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْهَا هَلْ يَجُوزُ قَطْعُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ؟
أَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا الْأَعْوَرُ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِي، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يُجْزِي.
وَأَمَّا قَطْعُ الْأُذُنَيْنِ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِي، وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُجْزِي.
وَأَمَّا الْأَصَمُّ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَقِيلَ: يُجْزِي، وَقِيلَ: لَا يُجْزِي.
وَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَلَا يُجْزِي عِنْدَ مَالِكٍ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ. أَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يُجْزِي، أَمَّا الْخَصِيُّ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُعْجِبُنِي الْخَصِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُجْزِي، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِي. وَإِعْتَاقُ الصَّغِيرِ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَحَكَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْعَهُ، وَالْعَرَجُ الْخَفِيفُ فِي الْمَذْهَبِ يُجْزِي، أَمَّا الْعَرَجُ الْبَيِّنُ فَلَا. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي قَدْرِ النَّقْصِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْقُرْبَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ إِلَّا الضَّحَايَا.
وَكَذَلِكَ لَا يُجْزِي فِي الْمَذْهَبِ مَا فِيهِ شَرِكَةٌ، أَوْ طَرَفُ حُرِّيَّةٍ كَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، وَالتَّحْرِيرُ هُوَ إِبْدَاءُ الْإِعْتَاقِ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ عَقْدٌ مِنْ عُقُودِ الْحُرِّيَّةِ كَالْكِتَابَةِ كَانَ تَنْجِيزًا لَا إِعْتَاقًا، وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ لِأَنَّ بَعْضَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ أَدَّى شَيْئًا مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ جَازَ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُجْزِيهِ عِتْقُ مُدَبَّرِهِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِيهِ تَشْبِيهًا بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ عَقَدٌ لَيْسَ لَهُ حَلُّهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِيهِ، وَلَا يُجْزِي عِنْدَ مَالِكٍ إِعْتَاقُ أُمِّ وَلَدِهِ، وَلَا الْمُعْتَقِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. أَمَّا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ فَلِأَنَّ عَقْدَهَا آكَدُ مِنْ عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا الْفَسْخُ. أَمَّا فِي الْكِتَابَةِ فَمِنَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ النُّجُومِ.
وَأَمَّا فِي التَّدْبِيرِ، فَإِذَا ضَاقَ عَنْهُ الثُّلُثُ.
وَأَمَّا الْعِتْقُ إِلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ عَقْدُ عِتْقٍ لَا سَبِيلَ إِلَى حَلِّهِ. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِجْزَاءِ عِتْقِ مَنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ بِالنَّسَبِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِي عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا نَوَى بِهِ عِتْقَهُ عَنْ ظِهَارٍ أَجْزَأَ. فَأَبُو حَنِيفَةَ شَبَّهَهُ بِالرَّقَبَةِ الَّتِي لَا يَجِبُ عِتْقُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الرَّقَبَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ شِرَاؤُهَا، وَبَذْلُ الْقِيمَةِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْعِتْقِ، فَإِذَا نَوَى بِذَلِكَ التَّكْفِيرَ جَازَ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ رَأَتْ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ عَتَقَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِعْتَاقِهِ فَلَا يُجْزِيهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَقَامَ الْقَصْدَ لِلشِّرَاءِ مَقَامَ الْعِتْقِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلْعِتْقِ نَفْسِهِ، فَكِلَاهُمَا يُسَمَّى مُعْتِقًا بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا مُعْتِقٌ بِالِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ، وَالْآخَرُ مُعْتِقٌ بِلَازِمِ الِاخْتِيَارِ، فَكَأَنَّهُ مُعْتِقٌ عَلَى الْقَصْدِ الثَّانِي، وَمُشْتَرٍ عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَالْآخَرُ بِالْعَكْسِ. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِيمَنْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ في كفارة الظهار، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَاحِدِ، وَمَالِكٌ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَهَذَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ شُرُوطِ الرَّقَبَةِ الْمُعْتَقَةِ.
وَأَمَّا شُرُوطُ الْإِطْعَامِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُجْزِي لِمِسْكِينٍ مقدار الطعام في الكفارة مِسْكِينٍ مِنَ السِّتِّينَ مِسْكِينًا الَّذِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمُ النَّصُّ، فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قِيلَ هُوَ أَقَلُّ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ مُدٌّ، وَثُلُثٌ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فَمُدٌّ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. فَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى اعْتِبَارُ الشِّبَعِ غَالِبًا (أَعْنِي: الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ)، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي شُرُوطِ الصِّحَّةِ فِي الْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَوَاضِعِ تَعَدُّدِهَا وَمَوَاضِعِ اتِّحَادِهَا: فَمِنْهَا: إِذَا ظَاهَرَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسْوَةٍ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ هَلْ يُجْزِي فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، أَمْ يَكُونُ عَدَدُ الْكَفَّارَاتِ عَلَى عَدَدِ النِّسْوَةِ؟
فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْزِي فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهَا مِنَ الْكَفَّارَاتِ بِعَدَدِ الْمُظَاهَرِ مِنْهُنَّ إِنِ اثْنَتَيْنِ فَاثْنَتَيْنِ، وَإِنْ ثَلَاثًا فَثَلَاثًا، وَإِنْ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ.
فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالطَّلَاقِ أَوْجَبَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةً، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْإِيلَاءِ أَوْجَبَ فِيهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ بِالْإِيلَاءِ أَشْبَهُ.
وَمِنْهَا: إِذَا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ شَتَّى هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ عَلَى عَدَدِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ظَاهَرَ فِيهَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، إِلَّا أَنْ يُظَاهِرَ، ثُمَّ يُكَفِّرَ، ثُمَّ يُظَاهِرَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى نِيَّتِهِ، فَإِنْ قَصَدَ التَّأْكِيدَ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْنَافَ الظِّهَارِ كَانَ مَا أَرَادَ وَلَزِمَهُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ عَلَى عَدَدِ الظِّهَارِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ عَلَى عَدَدِ الظِّهَارِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَجَالِسَ شَتَّى. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الظِّهَارَ الْوَاحِدَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْمُتَعَدِّدُ بِلَا خِلَافٍ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِلَفْظَتَيْنِ مِنِ امْرَأَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، فَإِنْ كَرَّرَ اللَّفْظَ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ يُوجِبُ تَعَدُّدُ اللَّفْظِ تَعَدُّدَ الظِّهَارِ، أَمْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فِيهِ تَعَدُّدًا؟
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا وَالْمُظَاهَرُ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؟
وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَسِّطَاتِ بَيْنَ ذَيْنِكَ الطَّرَفَيْنِ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شِبْهُ الطَّرَفِ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ لَهُ حُكْمَهُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شِبْهُ الطَّرَفِ الثَّانِي أَوْجَبَ لَهُ حُكْمَهُ.
وَمِنْهَا: إِذَا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ مَسَّهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ أَمْ لَا؟
فَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَالطَّبَرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: أَنَّ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْحُجَّةُ لَهُمْ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ: «أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ تَكْفِيرًا وَاحِدًا»، وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ: كَفَّارَةُ الْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ، وَكَفَّارَةُ الْوَطْءِ، لِأَنَّهُ وَطِئَ وَطْأً مُحَرَّمًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَا عَنِ الْعَوْدِ وَلَا عَنِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اشْتَرَطَ صِحَّةَ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، فَإِذَا مَسَّ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا فَلَا تَجِبُ إِلَّا بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَفِيهِ شُذُوذٌ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: مَنْ كَانَ فَرْضُهُ الْإِطْعَامَ فَلَيْسَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمَسِيسُ قَبْلَ الْإِطْعَامِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْمَسِيسُ عَلَى مَنْ كَانَ فَرْضُهُ الْعِتْقَ أَوِ الصِّيَامَ.

.كِتَابُ اللِّعَانِ:

الْقَوْلُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ بَعْدَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَنْوَاعِ الدَّعَاوِي الْمُوجِبَةِ لَهُ وَشُرُوطِهَا.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِ الْمُتَلَاعِنَيْنَ.
الثَّالِثُ: فِي صِفَةِ اللِّعَانِ.
الرَّابِعُ: فِي حُكْمِ نُكُولِ أَحَدِهِمَا، أَوْ رُجُوعِهِ.
الْخَامِسُ: فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِتَمَامِ اللِّعَانِ.
فَأَمَّا الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ اللِّعَانِ: أَمَّا مِنَ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}. الْآيَةَ.
وَأَمَّا مِنَ السُّنَّةِ فَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ مِنْ مُخَرِّجِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ «إِذْ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْعَجْلَانِيِّ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ، فَتَقْتُلُوهُ؟
أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟
سَلْ يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ، فَتَقْتُلُوهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنٌ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا، وَقَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا! فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. وَأَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَمَّا كَانَ الْفِرَاشُ مُوجِبًا لِلِحُوقِ النَّسَبِ كَانَ بِالنَّاسِ ضَرُورَةٌ إِلَى طَرِيقٍ يَنْفُونَهُ بِهِ إِذَا تَحَقَّقُوا فَسَادَهُ، وَتِلْكَ الطَّرِيقُ هِيَ اللِّعَانُ، فَاللِّعَانُ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْإِجْمَاعِ، إِذْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ أَعْلَمُهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِ الدَّعَاوِي الْمُوجِبَةِ لَهُ وَشُرُوطِهَا:

وَأَمَّا صُوَرُ الدَّعَاوِي الَّتِي يَجِبُ بِهَا اللِّعَانُ فَهِيَ أَوَّلًا صُورَتَانِ: إِحْدَاهُمَا دَعْوَى الزِّنَا، وَالثَّانِيَةُ نَفْيُ الْحَمْلِ. وَدَعْوَى الزِّنَا لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مُشَاهَدَةً (أَعْنِي أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ شَاهَدَهَا تَزْنِي كَمَا يَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى الزِّنَا)، وَأَنْ تَكُونَ دَعْوَى مُطْلَقَةً. وَإِذَا نُفِيَ الْحَمْلُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَنْفِيَهُ أَيْضًا نَفْيًا مُطْلَقًا، أَوْ يَزْعُمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَبْهَا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ بَسَائِطَ، وَسَائِرُ الدَّعَاوِي تَتَرَكَّبُ عَنْ هَذِهِ، مِثْلُ أَنْ يَرْمِيَهَا بِالزِّنَا وَيَنْفِيَ الْحَمْلَ، أَوْ يُثْبِتَ الْحَمْلَ وَيَرْمِيَهَا بِالزِّنَا. فَأَمَّا وُجُوبُ اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا إِذَا ادَّعَى الرُّؤْيَةَ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدُ.
وَأَمَّا وُجُوبُ اللِّعَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَأَمَّا الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اللِّعَانُ عِنْدَهُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا إِنَّهُ يَجُوزُ، وَهِيَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}. الْآيَةَ. وَلَمْ يَخُصَّ فِي الزِّنَا صِفَةً دُونَ صِفَةٍ، كَمَا قَالَ فِي إِيجَابِ حَدِّ الْقَذْفِ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. مِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا»، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ: «فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَةَ»، وَأَيْضًا فَإِنَّ الدَّعْوَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِبَيِّنَةٍ كَالشَّهَادَةِ. وَفِي هَذَا الْبَابِ فَرْعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ إِذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ بَعْدَ اللِّعَانِ، فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا سُقُوطُ الْحَمْلِ عَنْهُ، وَالْأُخْرَى لُحُوقُهُ بِهِ. وَاتَّفَقُوا فِيمَا أَحْسَبُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الدَّعْوَى الْمُوجِبَةِ اللِّعَانَ بِرُؤْيَةِ الزِّنَا أَنْ تَكُونَ فِي الْعِصْمَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِدَعْوَى الزِّنَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا هَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِعَانٌ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: بَيْنَهُمَا لِعَانٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَ وَلَدًا وَلَا حَدَّ، وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَالْحَكَمُ، وَقَتَادَةُ: يُحَدُّ وَلَا يُلَاعِنُ.
وَأَمَّا إِنْ نَفَى الْحَمْلَ صور اللعان: فَإِنَّهُ كَمَا قُلْنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا وَلَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، فَقَالَ مَرَّةً: ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَقَالَ مَرَّةً: حَيْضَةً.
وَأَمَّا نَفْيُهُ مُطْلَقًا، فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِذَلِكَ لِعَانٌ. وَخَالَفَهُ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ، وَقَالُوا: لَا مَعْنَى لِهَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَحْمِلُ مَعَ رُؤْيَةِ الدَّمِ، وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْحَمْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَذْفٍ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ، وَهُوَ وَقْتُ نَفْيِ الْحَمْلِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَنْفِيهِ وَهِيَ حَامِلٌ، وَشَرْطُ مَالِكٍ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَنْفِهِ وَهُوَ حَمْلٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِلِعَانٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْحَمْلِ فَأَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ مِنَ اللِّعَانِ فَلَمْ يُلَاعِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْفِي الْوَلَدَ حَتَّى تَضَعَ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ الْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ حَكَمَ بِاللِّعَانِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ: إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَمَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا»، قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا فِي وَقْتِ اللِّعَانِ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَنْفُشُ وَيَضْمَحِلُّ، فَلَا وَجْهَ لِلِّعَانِ إِلَّا عَلَى يَقِينٍ. وَمِنْ حُجَّةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ عَلَّقَ بِظُهُورِ الْحَمَلِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً: كَالنَّفَقَةِ، وَالْعِدَّةِ، وَمَنْعِ الْوَطْءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قِيَاسُ اللِّعَانِ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُلَاعِنُ، وَإِنْ لَمْ يَنْفِ الْحَمْلَ إِلَّا وَقْتَ الْوِلَادَةِ، وَكَذَلِكَ مَا قَرُبَ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ وَقْتًا، وَوَقَّتَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، فَقَالَا: لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ مَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ، وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا اللِّعَانَ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَهُ نَفْيَهُ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَهُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهَا بِالْفِرَاشِ، وَذَلِكَ هُوَ أَقْصَى زَمَانُ الْحَمْلِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ عِنْدَهُ، أَوْ خَمْسِ سِنِينَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ حُكْمُ نَفْيِ الْوَلَدِ بَعْدَ الطَّلَاقِ إِذَا لَمْ يَزَلْ مُنْكِرًا لَهُ، وَبِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْحَمْلَ إِلَّا فِي الْعِدَّةِ فَقَطْ، وَإِنْ نَفَاهُ فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ حَدَّهُ وَأَلْحَقَ بِهِ الْوَلَدَ، فَالْحُكْمُ يَجِبُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَى انْقِضَاءِ أَطْوَلِ مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الظَّاهِرِيَّةَ تَرَى أَنَّ أَقْصَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْحُكْمُ هُوَ الْمُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ التِّسْعَةُ أَشْهُرٍ وَمَا قَارَبَهَا، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ فِي مُدَّةِ الْعِصْمَةِ، فَمَا زَادَ عَلَى أَقْصَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ (أَعْنِي: أَنْ يُولَدَ الْمَوْلُودُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ أَوْ إِمْكَانِهِ، لَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ)، وَشَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّخُولَ غَيْرُ مُمْكِنٍ. حَتَّى أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَ عِنْدَهُ رَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى امْرَأَةً بِالْمَشْرِقِ الْأَقْصَى، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِرَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرِيٌّ مَحْضٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عُمُومَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ بِالْعَقْدِ، فَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ ضَعِيفٌ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَنَتْ وَاعْتَرَفَ بِالْحَمْلِ، فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ يُحَدُّ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَا يُلَاعِنُ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُلَاعِنُ وَيَنْفِي الْوَلَدَ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَيُلَاعِنُ لِيَدْرَأَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يَلْتَفِتُ إِلَى إِثْبَاتِهِ مَعَ مُوجِبِ نَفْيِهِ وَهُوَ دَعْوَاهُ الزِّنَا؟
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ وَهُوَ: إِذَا أَقَامَ الشُّهُودَ عَلَى الزِّنَا هَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ أَمْ لَا؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُدُ: لَا يُلَاعِنُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا جُعِلَ عِوَضَ الشُّهُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الْآيَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ، لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا تَأْثِيرَ لَهُمْ فِي دَفْعِ الْفِرَاشِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَاتِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَجُوزُ اللِّعَانُ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا، أَوْ عَبْدَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ عَبْدٌ، مَحْدُودَيْنِ كَانَا، أَوْ عَدْلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، مُسْلِمَيْنِ كَانَا، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، وَالزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةً، وَلَا لِعَانَ بَيْنَ كَافِرَيْنِ إِلَّا أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا لِعَانَ إِلَّا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاللِّعَانُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ.
وَحُجَّةُ أَصْحَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَرْطًا. وَمُعْتَمَدُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ، إِذْ قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ شُهَدَاءَ لِقَوْلِهِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ لِعَانٌ إِلَّا بَيْنَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ، فَشَبَّهُوا مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ بِمَنْ يَجِبُ فِي قَذْفِهِ الْحَدُّ، إِذْ كَانَ اللِّعَانُ إِنَّمَا وُضِعَ لِدَرْءِ الْحَدِّ مَعَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَرُبَّمَا احْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ: الْعَبْدَيْنِ، وَالْكَافِرَيْنِ»، وَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى شَهَادَةً، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْيَمِينِ فَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا} الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ لِعَانِ الْأَعْمَى، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَخْرَسِ لعان، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ الْأَخْرَسُ إِذَا فُهِمَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْعَقْلَ، وَالْبُلُوغَ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ:

فَأَمَّا صِفَةُ اللِّعَانِ فَمُتَقَارِبَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ خِلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ مَا تَقْتَضِيهِ أَلْفَاظُ الْآيَةِ، فَيَحْلِفُ الزَّوْجُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهَا تَزْنِي، وَأَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ لَيْسَ مِنِّي، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ تَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِنَقِيضِ مَا شَهِدَ هُوَ بِهِ، ثُمَّ تُخَمِّسُ بِالْغَضَبِ، هَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ مَكَانَ اللَّعْنَةِ: الْغَضَبَ، وَمَكَانَ الْغَضَبِ: اللَّعْنَةَ، وَمَكَانَ أَشْهَدُ: أُقْسِمُ، وَمَكَانَ قَوْلِهِ بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ؟
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَصْلُهُ عَدَدُ الشَّهَادَاتِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ نُكُولِ أَحَدِهِمَا أَوْ رُجُوعِهِ:

فَأَمَّا إِذَا نَكَلَ الزَّوْجُ في اللعان: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ يُحَدُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَيُحْبَسُ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْأَجْنَبِيِّ، وَالزَّوْجِ، وَقَدْ جَعَلَ الِالْتِعَانَ لِلزَّوْجِ مَقَامَ الشُّهُودِ، فَوَجَبَ إِذَا نَكَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَذَفَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ (أَعْنِي: أَنَّهُ يُحَدُّ). وَمَا جَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو، وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنْ قَتَلْتُ قُتِلْتُ، وَإِنْ نَطَقْتُ جُلِدْتُ، وَإِنْ سَكَتُّ سَكَتُّ عَلَى غَيْظٍ». وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ لَمْ تَتَضَمَّنْ إِيجَابَ الْحَدِّ عَلَيْهِ عِنْدَ النُّكُولِ، وَالتَّعْرِيضِ لِإِيجَابِهِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عِنْدَهُمْ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، قَالُوا: وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَ الْحَدُّ لَمْ يَنْفَعْهُ الِالْتِعَانُ، وَلَا كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِهِ، لِأَنَّ الِالْتِعَانَ يَمِينٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْحَدُّ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ. وَالْحَقُّ أَنَّ الِالْتِعَانَ يَمِينٌ مَخْصُوصَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ، وَقَدْ نُصَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّ الْيَمِينَ يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ، فَالْكَلَامُ فِيمَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي يَنْدَرِئُ عَنْهَا بِالْيَمِينِ. وَلِلِاشْتِرَاكِ الَّذِي فِي اسْمِ الْعَذَابِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهَا إِذَا نَكَلَتْ الزوجة اللعان، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْجُمْهُورُ: إِنَّهَا تُحَدُّ، وَحَدُّهَا الرَّجْمُ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا وَوُجِدَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَالْجَلْدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا نَكَلَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَبْسُ حَتَّى تُلَاعِنَ، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ»، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَفْكَ الدَّمِ بِالنُّكُولِ حُكْمٌ تَرُدُّهُ الْأُصُولُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُونَ غُرْمَ الْمَالِ بِالنُّكُولِ فَكَانَ بِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يَجِبَ بِذَلِكَ سَفْكُ الدِّمَاءِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَاعِدَةُ الدِّمَاءِ مَبْنَاهَا فِي الشَّرْعِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، أَوْ بِالِاعْتِرَافِ، وَمِنَ الْوَاجِبِ أَلَّا تُخَصَّصَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدِ اعْتَرَفَ أَبُو الْمَعَالِي فِي كِتَابِهِ الْبُرْهَانِ بِقُوَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ شَافِعِيٌّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ إِنْ كَانَ نَفَى وَلَدًا. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ جُمْهُورِهِمْ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَجِبُ بِاللِّعَانِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ عَلَى مَا نَقُولُهُ بَعْدُ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَدَاوُدُ، وَأَحْمَدُ، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: إِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ الْحَدَّ، وَكَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: تُرَدُّ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا»، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَأَطْلَقَ التَّحْرِيمَ. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّهُ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ اللِّعَانِ، فَكَمَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ كَذَلِكَ تُرَدُّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّحْرِيمِ إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ بِتَعْيِينِ صِدْقِ أَحَدِهِمَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ، فَإِذَا انْكَشَفَ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ.